كنت أظن، وما زلت أن لدي قدرة أعلى من المتوسط في الإحساس بآلام الآخرين وتفهمها بصورة عميقة، ولكن ما غاب عني هو أن هذا التفهم هو درجة أقل، وربما بكثير مما لو كانت آلامي أنا أو آلام أحبابي المقربين، ربما تخيلت أنني إستثناءً من هذا المقياس الذي يجعلك تئن عندما تجرح يدك، ويئن قلبك عندما تجرح يد عشيقتك. يبدو لي الآن أن الأمر أشبه بمسطرة تتفاوت طولا وقصرا باختلاف رهافة الحس للشخص المعين، لكن التفاوت عبر نفس المسطرة هو هو للجميع. قد تتعذب بآلام الآخرين كثيرا ولكن قطعا ستتعذب بآلامك أكثر. يتقطع قلبي وأنا ارى أسرتي تترك كل ما بنته طوبة طوبة - تاريخ رأيته بأم عيني وحضرت الكثير من تفاصيله وإن كانت بصورة متقطعة أحيانا، مع المعرفة بتفاصيل تجعلك قادرا على اكمال القصة حتى لو لم تعشها معهم يوما بيوم، يتقطع قلبي وأنا أرى كل ذلك ينهار في لحظة زمن بلا حتى مساحة للتفكر.
Tuesday, 13 May 2025
رسالة إلى من يهمه الأمر
أنا شخص لمن لم يعرفني تربيت وسط العائلة الكبيرة مع حبوبتي، دوما كنت استمد الحب والحنان من المجموع، أهلي وجيراني (وهم أيضا أهلي) مزارعين ورعاة ومعلمين وعمال بسطاء بمقايسس أهل الدنيا كما يقول شيخنا الطيب صالح، لكن قلوبهم بها طيبة لو قسمت على أهل الأرض لكفتهم. من أجمل لحظات حياتي على الإطلاق هي المناسبات واللمات وحتى الوفيات يا للعجب. لا يهم فيما نتحدث أو ان كنا نناقش السياسة أو حلف الناتو أم نتيجة المدرسة، المهم هو ذلك الاحساس العالي بالصدق والحب. كلام القلب يستقبله القلب وكلام اللسان يتبدد في الهواء قبل الوصول لأذنيك. أناس حقيقيون يعبرون عن دواخلهم كما هي ولا يحملون في نفوسهم سوى الحب.
شاءت الأقدار على ألا احضر وفاة أبي، والذي اعتبره الآن حيا في داخلي ما دمت امشي على وجه البسيطة، ولكن رغما عن تأخري لاكثر من اسبوع كان الناس يأتون زرافات ووحدانا فقط لكي يخففوا عني آلامي، فقط النور ود أحمد خليفة، لا يفرق معهم أين يعمل ولا ماذا يفعل ولا مكانته الاجتماعية ولا وضعه المالي ولا هذه الأمور الدنيوية الفارغة، فقط النور ابننا الذي مهما علت مراتبه أو نزلت هو النور. واريد من هذا المنبر أن أطمئنكم أن النور في دواخله هو النور. كما قال حميد لا العمارات السوامق لا الأسامي الاجنبية تمحى من عيني ملامحك. أحببت بعض الأشياء فبدأت بتعلمها ومنها ما يسمى بهندسة البرمجيات التي صدف أن أبناء العم سام يقدرون من يعرف بعض دروبها - فاغتربت عندهم ووجدت عندهم حفاوة الاستقبال وتقدير العمل الجاد بعيدا عن العلاقات الشخصية على الأقل للحد المقبول بالنسبة لي. ولكن ما زال جزءا كبيرا من روحي هناك حيث ولدت وترعرعت. أنا اتخيل انا الروح تكبر وتتضخم لتشمل المكان الجديد مش بتتقسم حقيقة، لدي ثلة من الأصدقاء الأوفياء أخذوا الجزء الجديد من روحي - الأصدقاء القادرين على النظر إليك ما وراء هذه الأقنعة الزائفة، أصدقاء لا استبدلهم بذهب الأرض ويمكنني تخيل حمايتهم بالغالي والنفيس كما يفعلون وكما رأيت كثيرا واقعا لا كلاما تأخذه الريح، بعضهم يسكن على بعد دقائق قليلة مني وبعضهم يبعد عني آلاف الأميال لكن لم تبدلنا المسافات ولم يغيرنا الزمن. أنا انسان بسيط لا ارغب في أي نوع من التواصل الزائف ولا أريد سوى التحدث لأرواح من أحب. لدينا زمن محدود في هذه الدنيا فلنعيشه كما أراد الله لنا أن نفعل. سبحان الله الواحد يغترب في أبعد بقاع الأرض عشان يكتشف انو الحياة هي ابسط بكثير مما نتصور وأعقد بكثير مما كنا نعتقد أيضا - يا للمفارقة يا للمفارقة.
حباني الله بذاكرة قوية في الحوارات، قد أكون غبيا لحظيا ولا افهم مغزي الكثير من الإشارات والأفعال، ولكنها تحفظ في مكان ما بعيدا لا يبدو حتى أن لي تحكما فيه، تتكاثر الأمثلة حتى تأتي لحظة جر الشريط وفجأة استعيد كل هذه الأحداث وكأنما أشاهد فلما متسق الرواية. هذا الأمر أحيانا مخيف ومرعب، أشبه بقدرتك على رؤية الناس عاريين من كل القناعات، فقط ترى فيهم هذه النسخة البشرية الحيوانية البسيطة بلا تعقيدات كثيرة، أصبح بامكاني رؤية الشاب المراهق الذي يعاكس كل من تحمل لقب أنثى في الشارع في داخل البروف الشيخ الوقور، يمكنني رؤية الطفل الأناني المزعج في وجه المليونير الذي يتحدث للملايين ويحاول جذب انتباهم كما تحاول بنت أخي تعلية صوتها بالبكاء عندما يتجاهل الجميع سماع كلماتها غير المفهومة لغة والمتسقة فكرة وشعورا، يمكنني رؤية العنصري البغيض الذي يغلف كلماته العنصرية المباشرة بما يسمى بالطعمية أو السخرية فهو ان كان واعيا بكلمات لسانه لا يمتلك نفس القدرات في إيماءات وجهه ونظرات عيونه. يمكنك رؤية كيف أن هذا الشاب وتلك الفتاة يتغازلون وسط الجموع رغما عن جلوسهم في أماكن منفصلة تماما - بل وحتى أحيانا يمكنك رؤية هذه الشخصيات حتى في نفسك التي بين جنبيك.
هو أمر مرعب ومخيف ولكنه جميل أيضا لأنك بالمقابل تستطيع رؤية الجانب الآخر، تستطيع قراءة الحب والاهتمام في كلمات بسيطة مرسلة من شخص لديه كل الأعذار ليكون غاضبا عليك، تستطيع رؤية الاهتمام في صديق يدعوك للمبيت عنده كشخص استثمر الكثير من وقته ليتفهم احساسك الانساني الحقيقي وقتها بعيدا عن الأحكام السريعة الجائرة، في صديق يقضي وقته لإعداد وليمة تحبها ويدعوك لها بكل ترحاب تعيد لك عبق ذاك الجو الأسري الجميل الذي لا ندري ان كان بوسعنا اعادته مرة أخرى، صديق يتصل بصوت لا يبدو عليه أي نوع من المشاعر ولكن تراها عيانا بيانا في كل ما يفعل. الحمد لله على نعمة التبصر ولو رجع بي الزمن لما اخترت غير ما اخترت. كما يقول ايليا عن الليل الذي يستر الأزهار الجميلة ولكنه يظهر الجمال الكامن:
ان كان قد ستر البلاد سهولها ووعورها - لم يسلب الزهر الأريج ولا المياه خريرها. نعم فقدنا المأوى والمباني ولكننا بنينا ما هو أعظم منها في دواخلنا وسنعيدها يوما ما وبصورة أجمل آلاف المرات.
أنا انسان مفعم بالحب والحياة، اقدم النصيحة لكل من يقبلها ولا ارجو لها ردا مباشرا كما فعل الكثيرون معي أيضا وساعدوني في الوصول إلى ما أنا عليه حاليا، تعلمت الكثير ممن حولي، واحاول ما امكن نقل خبراتي المتواضعة خصوصا لمن هم أصغر مني. أحيانا اقسو عليهم ولكني اراجع نفسي واتعلم واحاول أن أكون معلما أفضل في المرة القادمة. وهذه هي قيمة الانسان في نظري أن يسدد ويقارب. من الأحاسيس جدا والتي تنزل علي بردا وسلاما عندما تأتيني النصيحة بحب من اخواني الصغار، أنا أقدر الحب والمنطق والمعرفة إلى حد بعيد. لا أتقبل أي نصيحة لمجرد أن من يقدمها هو أكبر مني سنا - ولا ارفض ايضا لنفس السبب. نعم أقدر جهلي واحاول ان اتعرف على معرفة الاخرين الغائبة عني. - لكن ما دامت النصيحة شخصية وأنا من سيأخذ بها يجب أن أكون مسؤولا عن القرار الذي اتخذه ولا ارده الى أن فلانا قال لي كذا بعد ذلك.
عندما يقدم شخص ما نصيحته بمقدمة كهذه “أنا اخوك اكبر منك” اعتبرها تعبيرا عن الحب والمحنة ومكانتي في قلبه في اغلب الأحيان لا أكثر- أما النصيحة كمحتوى فتقدر بقدرها ومنطقها - هذا ليس خيارا بالمناسبة - مخي يعمل هكذا وهو شيء لا استطيع رده لأنني لا أرى طريقا آخر في عالم مليئ بالنوايا المختلطة. أتنازل أحيانا إحتراما للأعراف والتقاليد وما إلى ذلك إما تقديرا أو خوفا مما يترتب عليها ولكن داخليا لا أقدر على غير ذلك. أنا اعتقد ان هذا السلوك يحمي مجتمعاتنا مما اسميها بالفيروسات المتخصصة. تخيل أن شخصا كان طبيبا ماهرا وصل أعلى الدرجات في العلوم الطبية نظرية وممارسة وأخذ كل الألقاب الممكنة - ثم قرر فجأة أن يفتي الناس في الاقتصاد وعلوم الاجتماع وهو فيها أجهل من ابن اخي الصغير. فقط الفرق أنه يضع لقبه الطبي في نهاية منشوراته - أي ضرر يمكن أن يحدثه على مستوى المجتمع الذي تعلم أن يحترم ويقدر من يطبب جروحهم وآلامهم - وحق لهم أن يشكروا على ذلك - أي ضرر يمكن أن يحدثه علينا باقتراح نصائح مشروخة تحدث ضررا ربما يساوي أضعاف ما أحدثه من فوائد في مجاله بسبب أن الناس يسمعون كلامه الفارغ ثقة فيه واعتقادا منهم بأنه له نفس المستوى المعرفي فيما يقول. أنا طبعا لا ادعو الى وحدة التخصص باي حال من الأحوال ولكن فقط أتمنى - ولا اعرف ان كان هذا ممكنا - أن يصبح مجتمعنا يوما قادرا على تمييز المعارف لوحده بعيدا عن هذه الغطاءات - وسأعمل على ذلك ما استطعت.
يمكنكم اعتبار منشوري هذا اعتذارا لكن من قد مسسته بسوء وكان لي شيء من الحب في قلبه. شكرا لكم واحدا واحد وشكرا لهذه اللحظة العابرة التي ساعدتني في أن أرى نفسي في عيون من أحب. رغم المرارة أنا الآن مفعم بالطاقة والحيوية ولا أرى سبيلا غير محاولة التشبث بالأمل والتخفيف على بعضنا البعض ما أمكن. غير ذلك سنموت قبل أن تحل علينا آجالنا الجسدية ولا فائدة من جسد نزعت منه الروح. يموت الإنسان حينما تنزع روحه ولا يموت بالضرورة عندما تتوقف ماكينته الجسدية عن الدوران. هناك طفل ما كبر بداخلي بمئات الأعوام بسبب هذه الحادثة.
الله يديكم العافية ويدي أي زول قدر نيته.
Subscribe to:
Posts (Atom)