Wednesday, 28 February 2024

عن الحب والموضوعية

مرة بتونس مع صحبي عن كيف بنشوف آبائنا فقال لي انو حقيقة صعب ما اشوف والديني أحسن ناس في الدنيا. وافقته بإيماءة خفيفة واتجاوزت الموضوع لانو كان المقام ما كان مناسب للاستفاضة لكن حاحاول اشرح باختصار هنا.
أنا بشوف انو الانسان بعد عمر معين مفترض يكون عنده القدرة على الفصل بين الحب والتقييم الموضوعي للأشخاص حتى وإن كانوا أقرب الأقربين. بالنسبة لي ما حصلت لي صدمة في الحياة أكتر من وفاة أبوي، والحب البحبه لأمي لو وزع على أهل الأرض لكفاهم، لكن بالرغم من ذلك بقدر بوضوح (ودي حاجة اتعملتها كبير) اخت مواقفهم في الحياة بصورة موضوعية على الأقل بالنسبة لي. صحيح ممكن أكون غلطان، وممكن اكتشف انو ربما تقديراتهم في القضية موضوع الخلاف دا كانت صحيحة بعد زمن، وممكن اقعد اقول انو دايما هم بعملوا الأحسن في ظروفهم وتقديراتهم لأنهم ملائكة طبعا ما بشر لكن دا لا يغير شيئا من انهم بعملوا حاجات غلط حيال أبنائهم بدون وجود دوافع عليا. لو داير تبرر التبرير ساهل طبعا لكن بس الحب لا يقتضي التبرير وعادي ممكن
تجمع بين الاتنين.
ما عارف لييه الحقيقة البسيطة دي بتغيب عننا انو الآباء ديل بشر عندهم كل تحيزات البشر المعروفة وعادي جدا يتخذوا قرارات خطأ، ما عشان دا كان الأحسن في نظرتهم ولا شي، وإنما عشان تحيز معين (قد يكون أناني جدا) ممكن يكونوا واعين بيهو أو لا. قصدي في افتراض انو كل قراراتهم هي عشان مصلحة الأبناء، وهو افتراض موضوعي في ٩٩٪؜ من الحالات غالبا. الحالات كلمة مقصودة في هذا السياق يعني ٩٩٪؜ في الحالات ما ٩٩٪؜ من الآباء .لانو لو ما واضح انا داير اقول انو كل الآباء عندهم ال ١٪؜ دي بما فيهم أبوك انت البتقرا كلامي دا. طبعا غني عن الشرح انو أنا ما قاصد أي رقم دقيق بقدر ما انو بس الاغلب انهم بغلبوا مصلحة أبنائهم بصورة كبيرة شديد لكن ما درجة الكمال. للمرة التانية انا بتكلم عن الدوافع ما النتائج. ايوا غالبا في قرارات ابوك اتخذها عشان حسابات تانية ولمن تعاين ليها من مصلحة الأبناء بتلقى نفسك متضرر.
عشان نسهل الموضوع عاطفيا فكر فيها من منظورك انت كأب، عادي مثلا ممكن تفضل انك تشتغل اكتر عشان تجيب قروش زيادة مقابل انك تقعد وقت أكتر مع أولادك، وتحنك نفسك انك بتعمل كدا عشان تأمن مستقبلهم، لكن في أعماقك انت داير القروش الزيادة لروحك دي والعندك دا كان بأمن مستقبلهم وربما أحسن ليهم انك تقضي معاهم الوقت دا.
المشكلة صعب جدا جدا انك تنتقد الآباء من غير ما يبدو عليك انك زول قليل أدب أو غير ممتن أو ما بتحبهم كفاية أو أنت الموضوع بس عندك عامل كدا وغيرها من أسباب ال "الإبتزاز المعرفي" خلينا نقول. أنا بكره جدا أخت نفسي في موقف دفاعي زي دا فعشان كدا زي الحوار الفوق دا بس الزول بتجاوز الموضوع وخلاص. مزعج جدا فكرة انك عشان تنتقد موقف لا يغير من حبك تجاهم ولا امتنانك العميق ناحيتهم انك محتاج تقول معلقة عن كيف انهم أقرب الناس إليك حتى بعد داك تدلف للموضوع وبعد دا قد لا تنجو. وطبعا لو اتجرأت وقلت أنا شايف الحاجة دي عامة عند كل الآباء خلاص أنت ارتكبت كبيرة الكبائر وبس بتحاول تعمم حالتك الخاصة ومن السهل رميك بعدد واحد "ديل أهلك بس شكلهم العاملين كدا" هههه. يذكرني هذا بالنكتة السخيفة عن التطور لمن الولد يقول لأمه انو ابوي قال نحن أبناء عمومة القرود فترد الأم ديل أهل أبوك الكدا ههه. تحويل الأمر لنكتة لا يغير من حقيقة أن أهلها أيضا أبناء عمومة القرود إذا عدنا للوراء كثيرا.
لكن فعلا ربما من التأدب إنك ما تهبش مكامن الناس لانو الموضوع غالبا ما ح يقيف هنا وربما أحسن ليهم بس يواصلوا بالنظرة الطفولية الملائكية دي.

Sunday, 25 February 2024

عن الإحباط في التعبير

 شاهدت مع أصحابي لقاء لمغني الراب السوداني دافنشي كان يردد نفس الفكرة باستمرار وهي فكرة بسيطة كلنا بنكون متخيلين اننا فاهمنها تماما: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. فكرة في غاية البساطة والسهولة وكلنا بنكون بنرددها ونحن متصورين اننا فاهمين معناها منذ الصغر فلماذا يصر دافنشي على هذا التكرار الممل في التعبير؟
حسب دافنشي نفسه فهو توصل لليقين الكامل لهذا المعنى بعد تجربة مؤلمة مع الإكتئاب السريري. تجربة أضفت على هذا المعني الذي يفترض انه بسيط ومعروف عمقا جديدا لابد أن دافنشي يحاول جاهدا ايصاله لنا ولكنه لا يجد حيلة سوى تكرار نفس الجملة ونفس الكلمات "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها". المستمع قد يشعر بالملل وله كامل الحق في ذلك فالتكرار لا يبدو وسيلة ناجعة لنقل هذا العمق الجديد بعد التجربة. الصوفية لهم تعبير شائع في هذا المضمار هو العرفان. اليقين الذي تصل له بعد تجربة روحية هو العرفان بالله ولذا تجدهم يقولون العارف بالله وهو فرق نوعي كبير عن العالم بالله. يمكننا تخيل أن الفهم طبقات والعرفان هو أعلى ما يمكن الوصول إليه. هذا الاحباط ربما يمثل نقصا جوهريا في قدراتنا البشرية على نقل أحاسيسنا للغير وربما يمكن تجاوزه بصورة ما لا ندري ولكن كل ما نستطيع فعله إلى حين اكتشاف لغة أفضل هو المحاولة والتكرار والتعلم وبطبيعة الحال الفنون ولكن للأسف هناك حاجز تقني كبير يقف حيال تمكن فئة واسعة من استعمال لغة الفن كلغة تعبيرية شائعة. لكي تتمكن من شرح أحاسيسك عن طريق الرسم مثلا لابد لك من تعلم أساسيات الرسم أولا وبطبيعة الحال ينطبق هذا على الكتابة والشعر والنثر والموسيقى وغيرها. في حقيقة الأمر اعتقد أن هذا الحاجز يمكن تجاوزه بجعل الفنون جزء أساسي من منهج التعليم كما الكتابة تماما ولكن هذا أمر له تعقيداته المنفصلة والتي لا اعرف عنها الكثير على أية حال.
سأحاول هنا أن انقل مثالا بسيطا ربما يساعد نوعا ما في تقريب الفكرة للأذهان. الايقاع في الموسيقى عندما تندمج تماما مع الأغنية وتبدا الرقص من الأعماق يمكننا استعمال التعبير "الإيقاع يحركني" كبديل ل "أنا أتحرك مع الإيقاع". المشكلة هنا هي وجود ما يسمى ب "صيغة المبالغة". سيدعي الجميع أنهم يفهمونك باعتبار أنك وصلت درجة من الإندماج مع الإيقاع حتى بدأ يخيل إليك "أنه هو الذي يحركك" ولست أنت من تتحرك معه. لكن في حقيقة الأمر أنت تعني ذلك حرفيا. الايقاع هو الذي يحركني - نعم أنا لا اتحرك بإرادتي متابعا له. أنا مسلم نفسي تماما للايقاع هو الذي يوجه اطرافي وليس مخي ولا أي جزء واعي مني. ربما الأمر أشبه بظاهرة الدي جا فو. ربما أن الإشارة تصل متأخرة للجزء الواعي من مخك بطريقة ما - لا أدري ما الطريقة التي أوصلتك لهذه الحالة ولكن كل ما أعنيه أنه ليس لديك أي أثر أنت واع به على تحريك جسمك مع الإيقاع.

 هذا هو ال

 groove

الذي يعنيه فكتور وتن في كتابه عن الموسيقي

 (the music lesson ).

 وهذا هو جوهر الموسيقى ربما: الإنغماس في الإيقاع حتى لا تدري ما حولك. هي نفس فكرة الخشوع في الصلاة أو التلاوة. تدخل في حالة من الإبتهال والتعمق حتى تكاد تفقد الإحساس بما حولك أو تتحد مع ما حولك لا فرق. المهم أتمنى أني قد تمكنت بصورة ما عن إيصال إحباط صاحبنا هذا عندما يحاول أن يشرح الفكرة للغير فيلجأ لتكرار التعابير والعودة للوراء ومحاولة إجابة الأسئلة بصورة مختلفة ... الخ.

Friday, 23 February 2024

شيبة على الشنب

 اثناء ما بسمع اغنية قديمة على اليوتيوب تحث على المقاومة بعبارة "سأعيش" علق احدهم انه يقاوم السرطان اللعين ولديه احساس قوي بانه سيعيش ويحيا ويقاوم، على الجانب الآخر هنا يتملكني الاحساس العكسي تماما، نعم سأعيش لكن هذا لا يعني بالضرورة اني سأواصل الحياة هنا على هذا الشكل البيولوجي الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. مرت بي الخواطر دي وانا بشوف في المراية أول شيبة ظهرت على شنبي، وحسيت بيها كخطوة في الدرب المشاه ابوي زي ما شايف في الصورة انتقل من العيش هنا
وشنبه مكتسي بالبياض.
ابوي ما شاف فيني الشيبة دي بطبيعة الحال، لكن لابد انو عاش نفس الاحساس دا لمن ظهرت عنده اول شيبة، هل يا ترى كان متصور انو ح يكون عنده ابن ما يعيش على بعد آلاف الأميال ويواصل رحلة الحياة الفيزيولوجية لعشرات السنوات بعد تخطيه لهذه المرحلة؟ صورته في ذهني هي صورة هذا الكهل المكتسي شعر رأسه بالسواد مع بعض الزخارف البيضاء، بينما شعر وجهه يغلب عليه اللون الأبيض الكامل. بينما آخر لقطة حية لي  التقطتها عيونه هي صورة هذا الشاب في اواخر العشرينات المقبل على الحياة والمولع باكتشاف ما يخفيه المجهول في بلد غريب على كامل شجرتنا.


لا يعني هذا بالضرورة اني حانتظر لحدي ما يكتمل شنبي بياضا للحاق به، ولا يعني العكس ايضا ولكنه بلا شك خطوة في إتحاد الإبن مع أبيه مرة اخرى، ربما مرة واحدة إلى الأبد من يدري لا اعرف شخصا ما ذهب الى هناك وأخبرنا. لكن بنقدر نتنسم بعض الاحاسيس من مشاعرنا تجاه الاشياء غير الحية، كانها بتهمس لينا بانو نحن جزء واحد، ننتمي لنفس هذا العالم، كنا فيها وسنعود لها يوما ما. في الحقيقة حتى هذه العبارة لا تبدو بهذه الدقة، كنا فيها ونحن فيها الآن وسنظل فيها للأبد.
أبي لم يولد، ولم يمت، وأنا كذلك فلم المقاومة؟
Yes I will survive but not because I am strong or I can or whatever, I will survive by definition because even death is some sort of survival, or actually survival has no meaning let’s say
عبارة لا معنى لها، تحصيل حاصل

 

.