شاهدت مع أصحابي لقاء لمغني الراب السوداني دافنشي كان يردد نفس الفكرة
باستمرار وهي فكرة بسيطة كلنا بنكون متخيلين اننا فاهمنها تماما: لا يكلف
الله نفسا إلا وسعها. فكرة في غاية البساطة والسهولة وكلنا بنكون بنرددها
ونحن متصورين اننا فاهمين معناها منذ الصغر فلماذا يصر دافنشي على هذا
التكرار الممل في التعبير؟
حسب دافنشي نفسه فهو توصل لليقين الكامل لهذا
المعنى بعد تجربة مؤلمة مع الإكتئاب السريري. تجربة أضفت على هذا المعني
الذي يفترض انه بسيط ومعروف عمقا جديدا لابد أن دافنشي يحاول جاهدا ايصاله
لنا ولكنه لا يجد حيلة سوى تكرار نفس الجملة ونفس الكلمات "لا يكلف الله
نفسا إلا وسعها". المستمع قد يشعر بالملل وله كامل الحق في ذلك فالتكرار لا
يبدو وسيلة ناجعة لنقل هذا العمق الجديد بعد التجربة. الصوفية لهم تعبير
شائع في هذا المضمار هو العرفان. اليقين الذي تصل له بعد تجربة روحية هو
العرفان بالله ولذا تجدهم يقولون العارف بالله وهو فرق نوعي كبير عن العالم
بالله. يمكننا تخيل أن الفهم طبقات والعرفان هو أعلى ما يمكن الوصول إليه.
هذا الاحباط ربما يمثل نقصا جوهريا في قدراتنا البشرية على نقل أحاسيسنا
للغير وربما يمكن تجاوزه بصورة ما لا ندري ولكن كل ما نستطيع فعله إلى حين
اكتشاف لغة أفضل هو المحاولة والتكرار والتعلم وبطبيعة الحال الفنون ولكن
للأسف هناك حاجز تقني كبير يقف حيال تمكن فئة واسعة من استعمال لغة الفن
كلغة تعبيرية شائعة. لكي تتمكن من شرح أحاسيسك عن طريق الرسم مثلا لابد لك
من تعلم أساسيات الرسم أولا وبطبيعة الحال ينطبق هذا على الكتابة والشعر
والنثر والموسيقى وغيرها. في حقيقة الأمر اعتقد أن هذا الحاجز يمكن تجاوزه
بجعل الفنون جزء أساسي من منهج التعليم كما الكتابة تماما ولكن هذا أمر له
تعقيداته المنفصلة والتي لا اعرف عنها الكثير على أية حال.
سأحاول هنا
أن انقل مثالا بسيطا ربما يساعد نوعا ما في تقريب الفكرة للأذهان. الايقاع
في الموسيقى عندما تندمج تماما مع الأغنية وتبدا الرقص من الأعماق يمكننا
استعمال التعبير "الإيقاع يحركني" كبديل ل "أنا أتحرك مع الإيقاع". المشكلة
هنا هي وجود ما يسمى ب "صيغة المبالغة". سيدعي الجميع أنهم يفهمونك
باعتبار أنك وصلت درجة من الإندماج مع الإيقاع حتى بدأ يخيل إليك "أنه هو
الذي يحركك" ولست أنت من تتحرك معه. لكن في حقيقة الأمر أنت تعني ذلك
حرفيا. الايقاع هو الذي يحركني - نعم أنا لا اتحرك بإرادتي متابعا له. أنا
مسلم نفسي تماما للايقاع هو الذي يوجه اطرافي وليس مخي ولا أي جزء
واعي مني. ربما الأمر أشبه بظاهرة الدي جا فو. ربما أن الإشارة تصل متأخرة
للجزء الواعي من مخك بطريقة ما - لا أدري ما الطريقة التي أوصلتك لهذه
الحالة ولكن كل ما أعنيه أنه ليس لديك أي أثر أنت واع به على تحريك جسمك مع
الإيقاع.
هذا هو ال
groove
الذي يعنيه فكتور وتن في كتابه عن الموسيقي
(the music lesson ).
وهذا هو جوهر الموسيقى ربما: الإنغماس في الإيقاع حتى لا تدري ما حولك. هي نفس فكرة الخشوع في الصلاة أو التلاوة. تدخل في حالة من الإبتهال والتعمق حتى تكاد تفقد الإحساس بما حولك أو تتحد مع ما حولك لا فرق. المهم أتمنى أني قد تمكنت بصورة ما عن إيصال إحباط صاحبنا هذا عندما يحاول أن يشرح الفكرة للغير فيلجأ لتكرار التعابير والعودة للوراء ومحاولة إجابة الأسئلة بصورة مختلفة ... الخ.
No comments:
Post a Comment