Tuesday, 22 April 2025

عن مصطفى والآلام

مصطفى سيد أحمد يمثل قاع التألم السوداني بالنسبة لي وأصدق من عبر عنه. 

يتراوح الألم بمقادير مختلفة عبر الأغاني المختلفة 

منها الألم السوداني العادي الطبيعي المحتمل الذي يبدو أن الكل عاشه ممثلا بالحزن النبيل .. 

الكل عاشه هذه معلومة يمكن استنتاجها بمقدار من يستمتع بالاغنية بصورة واضح انها تمسه بصورة ما

وأيضا بكمية من كرر الأغنية من بعد مصطفى .. طبعا التكرار تحكمه عوامل كثيرة كالسهولة التقنية للأغنية ولكن أنا أرى أن  الحزن النبيل ليست من الأغاني السهلة على أي حال .. ومع ذلك اذا بحثت في اليوتيوب فتجد منها العديد من النسخ وأن الكثير من فناني الصف الأول قاموا بتجربتها

المرحلة الثانية من الألم تتلخص في سافر

وهنا لم اجد غير لينا قاسم هي من قامت بمحاولتها وحتى لينا لا يبدو أنها عاشت ألما يقترب مما عاناه مصطفانا

فقد أدت الأغنية بلا أخطاء وبطريقة ناعمة وسلسة وجميلة ولكن لم تستطع صب ذلك الجم الضخم من المشاعر يوازي ما قام به صاحبها وهي مقارنة ظالمة على أي حال - ولكنه وصف لا ينتقص من لينا شيئا فهي قدمت الأغنية لجمهور جديد ربما ليس له القدرة على الإستماع للمصدر مباشرة 

اذا قمنا بتعريف مقياس للمشاعر وافترضنا انه دائما يمثل جزئا من الأصل (مع استثناءات بسيطة يتعدى فيها الفنان صاحبها الأصلي وهذه لم أراها إلا في محمود وفي أغاني محدودة جدا) فأنا أرى أن الحزن النبيل مثلا حظيت بتغطية مشاعرية جيدة تحديدا من الصوت الطروب نادر خضر عليه الرحمة ولكنها نسخة شبيهة بالأصل لدرجة بعيدة بدون اضافات أو أبعاد جديدة سوى خامة صوت نادر لمن يعشقها

المثال المختلف هو مازن حامد وهو في رأيي فعل بالحزن النبيل ما فعلته لينا بسافر حيث قلل مقدار المشاعر إلى حد بعيد مع الحفاظ على الكمال فيما حاوله. بمعنى أن ما فعله مازن هو يطابق ما أراده مازن ولكن ما أراده مازن هو نصف ما فعله مصطفى وهو أمر يشبه الشخصيات الكمالية عموما- الشخصيات التي لا تحاول ما هو أكبر منها  أمام الجمهور فيكون انتاجها دوما كاملا ومقدسا هو أمر يبدو أنه يتوافق مع الذوق السوداني إلى حد بعيد فنحن لدينا آذان مدربة على سماع أغاني جميلة ومعقدة لكنها محدودة

لكن مازن قام ببعد ثاني مختلف وهو ادخال الجيتار الاكوستك بطريقة غير اعتيادية .. الكثير من السودانيين يعتقد أن الجيتار- أعقد آلة وترية في عصرنا هذا - صنعت للإيقاع ولا يمكن استعمالها إلا كدلوكة ولكن أمثال مازن هم من يصنعون تغييرا في هذه الإتجاه وأي جيتارست سوداني لابد أنه سيدين بالفضل لمازن. ربما لهذا  لم يحاول الذهاب بعيدا بالاغنية بطريقة قد تجعلها أكثر نخبوية لسببين: زيادة كم المعلومات و زيادة معدل الأخطاء - ليس لدينا الوقت والراحة النفسية لمعالجة الكثير من المعلومات كما يفعل مصطفى وليست كل الآذان قادرة على استبعاد الاخطاء ومواصلة الاستمتاع.

هذا الأمر خلق ذائقة فنية غريبة - تجعل تعريف الأغاني ضيق إلى حد بعيد. نحتاج المزيد من الفنانين كسيد خليفة ومحمد الأمين الذين يقومون بالمخاطرة والترديد واللعب بالمقاطع بصور مختلفة تجعل الذوق الموسيقي قادرا على الانتاج اكثر من الاستمتاع بالأشياء الكاملة المزبوطة

لفهم الفكرة يمكنك البحث عن تسجيلات زاد الشجون أو بتتعلم من الأيام لترى التشكيلات المختلفة التي يفعلها محمد الأمين بأدواته الثلاثة: الفرقة الموسيقية - العود وصوته الطروب وهو أمر نجح فيها الأستاذ لحد بعيد حيث استطاع الجمع من الكمال الذي تحتاجه الأذن السودانية مع فتح براحات للتجريب فيما سماها هو الاغاني الكبيرة وهي تسمية لطيفة جدا لأن كل الأغاني كبيرة ولكن ما يقصده محمد الأمين هي الأغاني ذات الألحان المبسطة والبطيئة القابلة للتشكيل بصورة تجعل من لم تتعود أذنه على التشكيلات الموسيقية المختلفة يستطيع فهمها بسهولة والانغماس في الجو.

لكن أغلب أغاني محمد الأمين قابلة للتشكيل لكنه يحتاج موسيقيين قادرين تقنيا بصورة لا يبدو أنها متوفرة أصلا في محيطنا ولا تراها إلا في نجوم الروك الكبار - مثلا أغنية كهمس الشوق من السهولة بمكان أن تتخيل تشكيلات مختلفة لكن من يجرؤ على تطبيقها بهذه السرعة العالية؟ حتى الجزء الأخير في سولو الجيتار نجد أن الأستاذ يلقنه تلقينا لصاحب الجيتار. وهذا ليس انتقاصا منه بالمناسبة بقدر ما هو وصف لما هو متوفر في السوق الموسيقي - فصاحب الجيتار هو من أفضل عازفي الجيتار السودانيين برأيي ولكنه بطبيعة الحال لا يملك من البراح التأليفي والتشكيلي الذي يملكه الأستاذ - والذي يبدو بسبب بعد المسافة بينه وبين أقرانه لا يحتمل اعطائهم المساحة لينموا هذه المواهب. الأمر يشبه في السياسة الصادق وحزب الأمة - فالصادق بالرغم من ديمقراطيته لكن لا أحد في محيطه استطاع الاقتراب من امكاناته بصورة تجعله منافسا حقيقيا لزعامة الحزب - ولا قام الصادق بالتنازل عن المنصب طواعية ليأتي شخص ما ويقوم بالتعلم على روؤس الناس فمات الصادق ومات الحزب.

الاستثناء في حالة الأستاذ هو عازف الكمان لؤي عبد العزيز والذي يبدو أنه أكثر من شرب من منبع الموسيقى الكبير على يد شيخه - ولكنه أيضا لا يتحرك بنفس الحرية. عندما يعزف السولو ترى بوضوح أنه يعزف اللحن بشخصية الكمان كما يجب أن تكون وأنه يتحرك في المساحات الصغيرة بصورة جيدة ولكنه لا يجرؤ على طرق الأبواب الكبرى. لا أدري هل هو موضوع خوف أم قدرات ولكني أراه الآن لديه الفرصة للانطلاق أو على الأقل لايصال الرسالة للجيل الجديد حتى نرى ٥٠ نسخة من همس الشوق كلها مختلفة عن بعضها البعض حتى يجد كل منا ضالته أو يصنعها بنفسه.

المهم نرجع لموضوعنا

الأغنية الأخيرة التي أراها تمثل قمة الألم ويبدو أنه لا أحد يقوى على إحتمالها هي اسئلة ليست للاجابة

لا استطيع وصفها مهما حاولت ... على قول المثل المصري ضرب ضرب ما فيش شتيمة

حتى اللزمات الفنية الضرورية لكسر الطعم (لا أحد يقوى على ألم مستمر بلا معنى بطبيعة الحال - هذا نوع ساهل من الملل يستطيع أي فنان فعله) تجدها قصيرة جدا فقط بما يكفيه لالتقاط انفاسه لمواصلة صب آلامه العميقة

بحثت كثيرا عن شخص حاول الاغنية بطريقة أخرى فلم أجد غير الشاب اليافع امجد ابوقصيصة والذي يبدو أنه له مستقبلا فنيا باهرا كفنان جاد يقدر صنعته قدرها


No comments:

Post a Comment