Wednesday, 4 June 2025

عن الهادي الجبل

الهادي الجبل هو مثال حي للشمعة التي تحترق كي تضيئ للآخرين. أعطاه الله قدرة عالية على استخراج الألحان العذبة من قبيل السهل الممتنع. خليط عجيب من التفرد (ألحان أصيلة غير غير متكررة في الأغنية السودانية) - سهلة الترديد بما يمكن المغنيين والعازفين بمختلف مستوياهم ترديدها والتطريب كل حسب ما يمتلك - لكن في نفس الوقت بمساحات واضحة لاضفاء اللمسات الخارقة لمن يستطيع التحليق عاليا كما كان يفعل الراحل الحوت.
والهادي الجبل هو أستاذ متجرد بكل ما تحمل الكلمة من معنى - فهو قد قرر بطوعه واختياره أن ترتبط أجمل ألحانه باسم آخر له قدرة أعلى على تطريب الوجدان السوداني وهي واحدة من خصال الموسيقيين الحقيقيين- فالمهم في النهاية أن يصل العمل لا من يوصله وهي خصلة حبى الله بها محمود أيضا بطبيعة الحال. طوبي للشيخ والحوار الغلبه.
عندما أقول بطوعه فأنا اقصد أن رجلا بقدرات الهادي لابد أنه قد عرف في أول لحظة التقى فيها بمحمود بأن هذا الفتى ما هي إلا مسألة وقت حتى يتربع على عرش الغناء السوداني -وأن أي اغنية يرددها غالبا سيمتلكها عنوة واقتدارا شاء الناس أم أبوا - فذائقة الجمهور لا تستطيع الاعتراف بهذه المقايسس الدنيوية عندما يكون موضوع الخلاف بحجم صوت الحوت.
طبعا هناك من حاول مقاومة هذه الموجة ومات معها بالطبع كما حدث مع صاحب الفات زمان عندما حاول شاعرها حرمان المجتمع السوداني بدعوى ما يسمى بحقوق الملكية الفكرية (أنا لست ضد الفكرة بصورة عمياء بالمناسبة).
لابد أن الهادي كان من أكثر المكلومين بموت الراحل فحسب ما أعلم - فقد الابن هو ألم لا يضاهيه ألم على الإطلاق. فأنت تنجب أبنائك ليحملوا اسمك بعدك لا العكس. والحوت هو ابن حقيقي لأستاذنا تبناه ورعى مواهبه غير الاعتيادية - وهو أمر لم ينبري له غيره ممكن كانت لهم قدرات ربما أعلى من الهادي في التأليف والتوزيع كمحمد وردي - أكثر فنانيا غزارة في الإنتاج على الإطلاق. طبعا لحسن الحظ أمثال الحوت لا يموتون حتى تموت الأمة السودانية أو كل من أطربه هذا الصوت المحب المخلص بالرغم عن عدم اهتمامهم بجودة الانتاج الموسيقي كما كان يفعل الموسيقار محمد الأمين عليه الرحمة.
طبعا لسخرية القدر الهادي لم يجد نفس الدعم من الجيل الذي سبقهم. فالهادي على ذمة الراحل مصطفى سيد أحمد في فيديو يحكي فيه عن مسيرة جيلهم الفنية (مصطفى - وردي - محمد الأمين والهادي الجبل)(١) قد ذهب إلى ليبيا وهجر الساحة الفنية السودانية بسبب أن الجيل الذي كانت عليه مسؤولية تعليمهم وتمليكهم معالم الطريق كان ينظر نحوهم زي نظرة “تجار الخدار” للقادم الجديد- ما تجي تشيل من كومي. واحدة من أكثر الأفكار ضررا: أن نجاحك يخصم من نجاحي وهو مما يحرمنا من فرص العمل الجماعي كثيرا. كان جيل مصطفى والهادي يطلق عليهم “جيل بلا أساتذة” بسبب هذه القطيعة التي لا يبدو أنها انتهت بعد من المجتمع الفني السوداني من ملاحظاتي البعيدة.
جانب آخر أحبه جدا عن الهادي وهو أنه لحد ما أوجد مزيجا جميلا بين الأغاني المفرحة المبهجة الصاخبة التي لا يبدو أنها تناسب الذوق السوداني الحزين في المجمل - والأغاني السوداء البطيئة التي تدخلك في عالم من الكآبة كما يفعل مصطفى. المزيج يميل نحو المفرح لكنه فرح وقور يشبه وجه الكهل المليئ بالتجاعيد عندما يبتسم ابتسامة لطيفة واثقة كأنما هو زاهد في الدنيا لكنه سعيد بما أخده منها في نفس الوقت. هدا الثيم العام يبدو واضحا في أغنية بفرح بيها على سبيل المثال. هي أغنية تمثل الانسان الواثق بنفسه الدي يحب كما يجب أن يكون الحب - لكنه لا يسمح له بالتغول على شخصه. بفرح بيها وبحبها وبشوف فيها كل ما يمكن أن يراه المحب في محبوبه ولكنه لا يحتاجها ولا تتحول حياته جحيما عند غيابها كما يصور لنا بعض النرجسيين معنى الحب: الحب عندهم هو أن تكون سجينا في قصر المحبوب الذي بامكانه اللعب بحدوده كيفما يبدو له. تارة يدخلك في جنته وتارة يحرمك منها - تارة يكويك بناره وتارة يجيرك منها. الهادي بقول لينا لا: بس بفرح بيها. الجمال الشايفه فيها في حدود دنيتنا مافي. والجمال هو لقطة تحفظ في ذاكرة المشاعر فلا تزول للأبد. نعم تقل حرارة الإحساس الأول وهو أمر لا مرد له فيما يبدو - فهذه طبيعة الأشياء - يجب أن تتفرغ مواعينك لأحاسيس أخرى تضاهيها قوة ولكن - والحمد لله على نعمة الذاكرة - أن من ذاق حلاوة الحب مرة أصبح قادرا عليه للأبد فمغنينا سيظل قادرا على تحسس هذا الجمال القادم من خارج حدود دنيتنا الضيقة ما دام له قلب ينبض وذاكرة منتعشة وأوتار صوتية قادرة على التحرك بحرية في فضاء المعاني. حتى شخصية الهادي وصوته ذو الاشارات الزائدة على الجوانب والتي تصعب على من لم يمنح أغانيه وقتها أحيانا الاستماع اليه يبدو أنها لحد ما تشبه هذه الفكرة. ليس كل الناس لديهم القدرة على تجاوز هذه المعضلة البسيطة والنفاذ مباشرة إلى الاستماع المباشر لهذه الدرر الموسيقية بصوت من قام بجلبها من العدم. نشكر الحوت لقدراته في شرحها لنا بحدود معرفتنا الضيقة بلا أن ينقص من روح الأغنية شيئا. هذه مقدرة تفوق الخيال. حقيقة محمود هو هدية الله للسودان التي لم يرعاها كم يجب. الحوت هو المهندس الذي يأخذ النظريات من بحور الفلسفة ثم يقوم بتنزليها على حياة الناس مشاريع خضراء تنمو وتزدهر فتحيا الأفكار للأبد.
أتمنى أن تمنحني الحياة فرصة أخرى لحضور حفل آخر للأستاذ الجبل أطال الله في عمره. تغمرني سعادة هائلة أن شهدت له حفلا واحدا كان في مسرح مدينة النهود ومعه الأستاذ عبد القادر سالم والفرقة الاثيوبية وفنان آخر لا اذكر اسمه. لم تكن لدي نفس القدرات في تمييز الألحان ولكنني تفاجأت حينها بالفرق الكبير بين سماع أشرطة الهادي وسماع الهادي لايف على خشبة المسرح. هذا الرجل من عباقرتنا الذين لم يحظوا بالاهتمام الذي يستحقونه في نظري ولا أظنه يحفل بذلك فأمثاله يجدون في دواخل هذه العوالم التي يتحفوننا بها ما يكفيهم أبد الدهر - فقط لو توقفت الحياة عن قسوتها الخانقة ووجد كل منا يعينه على ضرورياتها.

No comments:

Post a Comment