Wednesday, 25 June 2025

الأستاذة عشة الجبل

 واحدة من الحاجات الشدتني قبل فترة طريقة تفاعل الناس مع ركوب عشة الجبل للباترول، واعتراض الكثيرين وحكاياتهم السمجة انهم ضيعوا وقتهم في القراية في حين انو الزول ممكن يركب باترول بسهولة لو فات وعمل ليو اورقن وحام بيهو، طبعا نسوا يقولوا "وكان اسمه عشة الجبل" هههه. 

فمشيت يوتيوب اتعرف على الإنسانة دي، لاقتني كمية من الفيديوهات مشاهداتها بالملايين. وهو رقم كبير على مستوى الفنانين السودانيين، بلقاه شائع في الفنانين العرب وهو دون المستوى عند الفنانين الغربيين. المهم واضح انو الزولة دي الناس بحبوها مبدئيا كدا قبل أي شي. والفنان الناس بحبوه لو كان بعبر عنهم، فبالتالي اي زول ما قادر يفهم الحاصل يا إما يمشي يفتش السبب، او هو ببساطة بس ما معترف بالطبقة البتحب عشة دي. ولمن اقول الطبقة ما بقصد بالضرورة بعد واحد، بعد مركب جزء منه جهوي وجزء طبقي وجزء قبلي. لكن واضح انو في نمط لمحبي عشة الجبل او محبي الزنق عموما، والإعتراض عليها هو في حقيقته انو كيف أصلا إنسان ينتمي لهذه الفئة يتحصل على أموال كافية لشراء عربة لا أستطيع انا (ومن ثم يدخل وظيفته اللهو فيها دون المتوسط غالباً) بجلالة قدري شراء زجاج أبوابها ههههه. 

طبعا يا لسخرية القدر، الموسيقى بالتعريف هي من أصعب المهن على الإطلاق عكس الكثير من المهن اللي مهما كان مستواك فيها تعبان بتقدر تعيش عليها. والزول البعبر فيها مش بس محتاج يكون متميز،التميز في الموسيقى شرط ضروري لكنه غير كافي، الموسيقي العابر في السوق مفروض ما يكون عنده أي غلط كبير أو واضح، وبغلط قصدي العوامل المصاحبة نفسها مش أداءه بس، لأنه سوق الموسيقي بالتعريف هو التنافس على أسماع البشر والذين لا يتعدى عددهم ال ٨ مليار نسمة أغلبهم ما متاح ليهم الوقت ولا راحة الذهن المطلوبة للاستمتاع بالفنون أصلا للأسف الشديد. فلمن زول يقدر يجذب إهتمام عدد كبير زي دا زي الأستاذة عشة الجبل فبتستحق كل الإحترام والتقدير. نعم الأستاذة عشة الجبل بكل ما تحمل الكلمة من معنى. هي أستاذه تهذب وجدان الكثير من المنسيين الذي لم يهتم بهم أحد ولم يسمع أحلامهم، آمالهم ولا طموحاتهم. قامت عشة هبشت فيهم وتر ما فردوا عليها التحية بالبسيط الذي تجمع وتجمع فانتج الباترول. بعدين ياخي اتخيل العظمة، يعني في أجمل من انو عربيتك الراكبة تكون شير من ملايين الناس كل زول فيهم دفع ميلغ بسيط بعبر فيهو عن شكره ليك لكلماتك الجميلة المغناة. مافي سيارة أجمل من كدا والله أكاد أجزم. 

Monday, 23 June 2025

رسالة الأمل المشروط بعذابات المستقبل

 هي أيام صعبة، مؤلمة، محطمة، يتساقط فيها الجميع، لا يقوى أغلبنا على المقاومة والتماسك، نحتاج قدر من العزيمة لا تقوى عليه الجبال. والمؤلم أننا لا ندري ان كانت آلامنا هذه كآلام المخاض قبل الحدث السعيد، أم هي آلام الإحتضار قبل الموت الأبدي. 

أنا لا ادري ماذا سيحدث، ولا أصدق من يقول أنه يدري، ولن اكذب واقول عيش اللحظة فلست قادرا على ذلك حتى، ولكن فقط اقول حاولوا، سددوا وقاربوا، ستفشلون بكل تأكيد في البداية، ثم تفشل وتفشل وتفشل، ستفشل حتى يكرهك الفشل ويمل من إصرارك وعنادك، سيريك الفشل جميع تمظهراته، سيأتيك من كل الجوانب من حيث تدري لا تدري. بعدها ربما يفتح الله عليك إذا كنت لا زلت هنا على هذا الجانب من الحياة. هناك خيارا آخرا أن يحدث الفتح على اكتافك، لكن بعد مغادرتك لهذا المكان فلا ترى غرس زرعك بأعينك. 

أمثال هذه الأيام هي ما يظهر معدن الناس على حقيقتهم عرايا بلا ثياب، حيث لا مجال للهروب ولا للتظاهر باللامبالاة، ربما هي فعلاً أوقات الإختبارات التي لا مجال فيها للحياد، والحياد هنا بمعنى الإنكفاء على الذات واللا مقاومة. لا خيارات لدينا، لا سبيل، يمكننا ان نعمل وهناك احتمالية للمكسب، ويمكننا الجنوح للنوم والأكل (ان كان متوفرا) والشرب كما تفعل الأنعام مع ضمان الهزيمة.

لا مكان للأنانية الظاهرة منها والمتخفية، هي سفينة واحدة في بحر متلاطم، إما أن ننجو معا أو نهزم معا. لا خيارات على الإطلاق، لا مكان للمغانم الشخصية ولا للعب الأطفال. هذا هو قدرنا على أي حال، إما أن نتحمل ونتجلد ونقاوم، وإما أن يذهب بنا الطوفان. 

لا مكان للنقاشات اللغوية الما بتودي ولا بتجيب، دي نعملها في برشلونة وريال مدريد، لكن حياتنا على المحك، إما أن نتحدث من القلب للقلب أو لا نتحدث، إما ان نحترم حدود بعضنا البعض، أو لا نتعامل على الإطلاق، ربما تكون هذه لحظاتنا الأخيرة على هذا الكوكب، ربما يكون هذا أفضل ما فعلناه لا ادري.

هناك جزءا مني لا زال متمسكا بالأمل، نعم هو أمل مهزوز غير مكتمل اعترف، ولكنه كافي على الأقل للاستيقاظ كل صباح، ومحاولة القيام بخطوة صغيرة قد تحافظ على هذه الشعلة المسماة بالروح أو تكسبها بعض الوقت. روح الأمل، والأمل يتضاعف بالحب والتكاتف والتفهم، بدون هذا لا فائدة، لا أريد أن ينتهي بنا الوضع ان نردد خلف مصطفى أغاني الكآبة بينما نذهب في سراب الذكريات. 


لا بأس من البكاء والعويل على فترات متقطعة ومن ثم إلتقاط الأنفاس سريعاً للمواصلة، لكن ربما لا وقت حتى لذلك. كنت أتمنى لو كان بمقداري كتابة رسالة سعيدة وانا اعتدت ان اعيش على الأمل، على التفاؤل، على المستقبل. 

لم انظر يوما للواقع على أنه وضع حالي جميل لا بأس به، دوما افكر فيما يمكن فعله وكيف يمكننا تحسين حيواتنا. هناك استثناءات قليلة تحدث من حين لآخر تعيش فيها بالحاضر كما يجب أن يكون، عندما اكون في الطبيعة الفسيحة بين الأشجار، الأشجار تهب عليك نسائمها بلا رغبة ولا طلب، فقط تمنحك الحب والظل ولا تأبه بك ان جلست أم ذهبت. هناك أرواح قيض الله لها نفس هذه القدرة والرؤية، اعتبر نفسي من المحظوظين أن حباني الله بالكثير منهم. ربما بعضهم يقرأ كلماتي هذه الآن، أنا أحبكم كما تحب الأشجار بذورها وأصولها، حبا متجاوزا للرغبة والحاجة، فقط ارغب برؤيتكم سعداء واتمنى لو كنت قادرا على بيع الأمل اليقيني، ولكن على كل حال الأمل المهزوز بعواصف الشكوك هو أفضل من اليأس بلا شك. فاليأس موت مبكر.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم

Tuesday, 17 June 2025

الموقف من الإمام

 الموقف من الصادق

الموقف من الامام من المؤشرات الممكن تقيس بيها وعي المثقفين لانو جامع كمية من المتناقضات الصعب تتلم في زول واحد:

انو عنده ارث جاهز كبير شديد، ودي بتسهل عليه استغلال الارث دا بدون اي مجهود منه، وهي حاجة فعلاً عملوها آل المهدي الحايمين ساي بدون ذكر أسماء يعني، فدي بتسهل اي زول داير ينتقد بسهولة انو بس يقول ليك الصادق دا عشان ود المهدي، زي قلة الأدب البعملوها لعبدالله جعفر لانو أول السودان. وطبعا الناس دايرين الصادق يجي ينكر ليهم ابوه ولا كيف ما تعرف، التواضع الما عنده معنى داك. يعني ح يتبسطوا لمن عبدالله يجي ينتقد ليهم امتحان الشهادة عشان يحوموا بعد داك ويقولوا ياخي دا اول الشهادة ما معترف بيها ما تقدونا بالموضوع دا، وحقيقة انا مبسوط انو عبدالله اصلو ما حقق ليهم الهدف دا، اول كدا في راس اي زول هههههه. 

النقطة التانية انو الصادق مقطع شغل المثقفين دا، وممكن يقعد يتكلم خمسة أيام متواصلة عن أي موضوع لحدي ما غلبهم ينبزوه بشنو قالوا عليه أبوكلام هههه. طبعا الزول الفهمه حبة ما بعرف يتكلم وبقعد يكرر ليهو تلاتة عبارات في اي محفل وخلاص ولا يكرر بعض النكات البايخة ولا يمشي يكتب ليهو خطاب مليان عربي وكلمات غريبة وشاعرية فارغة من المعنى. على فكرة مافي مشكلة يكون فهمك حبة يعني لكن المشكلة يكون فهمك حبة وحايم في المنابر بتعمل فيها بتقدم في شي وتكون انت شاغل مساحة مفروض يملوها الناس البشتغلوا بالجد. الواحد داير يبقى صانع محتوى بدون محتوى. يعني يجوا لحتة 

برضو الصادق دا ما بقدروا يفتروا عليه بحركات الانجليزي والمصطلحات الرنانة البدخلوها ساي بدون مناسبة ديك. دايرين فلسفة ارح، دايرين هندسة قدام، دايرين شغل واجتهاد ديك كتبي وداك شغلي والحشاش يملا شبكته. ياخي الكتب الكاتبها الإمام دي والله اجزم انها اكتر من الكتب القروها نص الناس الحايمين ينبزوا فيهو ديل ههههه. يعني حيرة عجيبة اللانقا بهن يقطعها ليهم، يجوا بجاي مع الناس الشايفنهم اهالي وغوغاء ساي يلقوه متزعمهم، ومش الزعامة بتاعة السواقة الهم عايزنها زول جاي يفهم الناس عديل بالدرب. بتذكر وانا طالب ايام المدرسة ساقني اخوي ندوة في الابيض، كان كل ما يعتلي المنصة الانصار يقعدوا يعملوا حركاتهم بتاعة التقديس ديك فبسكت حبة ويواصل، بعدين فاض بيهو فقال لينا فيما معناه "أنا جئت لانقل لكم فكرا ورأيا فبالله عطلوا افواهكم وايديكم، وادوني رسينكم واضنينكم الكبار ديل هههه" الكبار ديل من عندي طبعا.

انا حضرت ليهو حلقات شاهد على العصر ياخي الراجل دا بقعد المفاهيم كما يجب ان تكون. كلام بتاع انسان حامل شعلة وعي ومهتم بمن يتزعمه مش مجرد واحد عنده ايقو وداير يطلع فوق على رؤوس الناس ساي. زول احلامه قدر العالم واكبر. انا قريت ليهو كتاب واحد بس (نهر النيل، الوعد والوعيد) وشفته كيف قادر يركب النظارات المختلفة بمهارة فائقة، مرة يبقى فليسوف يتكلم ليك عن الماء كمفهوم وعلاقته بالحياة وعن فكرة التنبوء بالمستقبل وغيرها، بعد داك يقلب سياسي ويتكلم ليك عن اقتراح حلول التنسيق بين الشركاء وكيف ممكن يستفيدوا من بعض وكيف ممكن يعملوا مشاريع بتضيف للجميع ويبهرك بدراسة العوامل الما ممكن تخطر ببالك زاتو، كانت بتجيني لحظات كدا بقول اسي دي فكر فيها كيف زاتو، بعدين يجي ينزل للجانب القانوني ويتكلم ليك عن التشريعات وتاريخها واثرها وكمان توقعه لما سيحدث (واللهو بعض منه حصل لانو الكتاب اسي الريدي بقى تاريخ). 

المبهر بالنسبة لي كمان لمن نزل تحت للهندسة، دا شنو يا سيادة الإمام ما تخش لينا في شغلنا كمان ههههه. اتكلم عن مشاريع حصاد المياه والمحاصيل البتتزرع وكيف ممكن نعمل optimization للعمليات بحيث نوفر موية بدون ما نتضرر، شنو الممكن تعمله مصر وشنو الممكن يعمله السودان وشنو الممكن يعملوه الاتنين سوا وهكذا، يعني شغل بتاع هيئة أبحاث عديل. الصادق واضح جدا انو انسان مؤمن تماما بفكرة واحد زايد واحد اكتر من اتنين، انو التعاون دائما احسن من التنافس واننا لدرجة كبيرة بنتوهم انو معاركنا صفرية مع انها ما كدا في حقيقة الأمر ونحن ناس طموحاتنا حبة بس. على قول مصطفى سيد أحمد الناس بتتعامل زي الزول في سوق الخدار اي واحد بس شايف التانيين عايزين يشيلوا كومه، غباء يحير زاتو.

طبعا في الجزء بتاع الغيرة والروح الشريرة، لانو الصادق دا عامل زي البت السمحة وشاطرة ومهذبة ومحظوظة ومجتهدة، ما عندهم اي طريقة ينتقدوها فبقعدوا يقولوا ليك كلام فارغ كدا عشان يقللوا منها، يقولوا ليك نانسي عجاج ما تعرف صوتها بضرسني ههههه. فمع الصادق تلقاهم حايمين بوخة مرقة وما تعرف شنو، يلفحوا ليك عبارتين عميقات قالهم في موقف عابر يا اما ما استشفوا عمقهم يا اما بسوء الغرض ساقوهم وحاموا بيهم. طبعا انا ما قاعد اقدسه يعني ولا بقول انو اي كلام يطلع من لسانه جاي من حكمة بطبيعة الحال، لكن في امثلة كتيرة للحاجات الكانت بتطلع عاملة كدا، الكلام بكون واضح وسياقه واضح لكن بس الله غالب الما بتلحقه جدعه.

الحركات الزي دي ياها بتضيع علينا السماع لحكمة الحكماء البجونا كل فترة، وديل ناس ما بتكرروا وهو من فضل الله علينا انهم موجودين بيننا، فبدل ما الناس تقل ادبها مفروض تقدر العندها وتستفيد منه. اسي الصادق اتوفى ربنا يرحمه ويرفعه في اعلى الجنان، لكن ديك ياها كتبه ومقالاته حايمة الناس تمشي تبحت وتتدارس وتستفيد. 

Friday, 13 June 2025

كان جيت ولقيتها

 الأمهات السودانيات مشهورات بعبارة "لو جيت ولقيتها" لمن يفشلوا إنهم يوصفوا ليك مكان الحاجة البطالبوك تجيبها ليهم، وهي طبعًا تعبير عن القنع منك، مع إنك أقدر منها فيها. فهي غالبًا زولة كبيرة، حركتها صعبة، وعندها مية حاجة تانية، وانت شافع عبارة عن طاقة رايحة ساي، لكن ما بتسمع الكلام.

المفارقة دي جميلة في فكرة بذل المجهود في التعاون بين أي طرفين، لمن يكون في طرف عيونو أقوى من يدينو، والتاني يدينو أسرع من عيونو. الزول الشواف عليه مجهود إيضاح الأشياء، بحيث اليد السريعة تقدر تصل بدون تعب، والطرف التاني عليه عبء الاستماع ومحاولة الاستيضاح ما أمكن. النوع دا من العلاقات يبدو إنو بتحصل فيهو مشاكل كتيرة من الطرفين، بتتمظهر بعبارات زي الفوق دي، لكن أنواع المشاكل كتيرة.

واحدة منهم عدم الصراحة. خلينا نسمي الطرفين هنا الشافع والأم. مثلًا، الشافع ممكن يكون شايف أمه دي بتخرف ساي، وهي ما عارفة محل عدّتها وين. وطبعًا في أمهات فعلاً غالبًا عاملات كدا، وبتقول ليهو بس نقطة بداية على أساس هو يفتش براهو بعد داك. المشكلة جاية من إنو الشافع ما اتعلم ينتقد أمه بصراحة، لأنو "كدا عيب"، فحيقعد يعبّر عن انتقاده دا بأسلوب تاني.

عموماً الإنسان غالبًا لو ما قدر يقول كلامه عديل، اللاوعي بتاعه بتصرف من أبسط شي، زي إنو يقعد يمد بوزه اليوم كله، لحدي ما يمشي يعمل الحاجة ويخربها. أحيانًا ممكن يتصرف بصورة واعية لو كان ذكي كفاية، مثلًا ممكن يقعد يقول ليها: أصلًا الصحن هو ما أبيض، أو انتِ قصدك تلاتة صحون ليه قلتِ اتنين؟ أو الصحن قاعد عديل ولا بالقلبة؟ المهم أي كلام فارغ ينفع يشغل المكان بتاع "أمي انتِ بتخرفي ساي" هههه.

الخواجات عندهم أحناك كدا اسمها التربية الإيجابية وبتاع، أنا ما فاهمها كويس، لكن طريقة حواراتهم مع شفعهم واضحة إنها مختلفة، وفيها مساحات حوار بخلوا الشافع يعبر عن نفسه وما يضطر يلف ويدور.

مثال للمشاكل في جانب الأم، إنها مرات ما بتحوّل نظرتها إلى لغة مقبولة للشافع، حتى لمن يكون ود فالح وبسمع الكلام هههه. أنا طبعًا هنا مفترض إنو الأم عارفة الصحن قاعد وين، ومشكلتها بس هي عملية التحرك دي. فالطفل، حتى لو بسمع بكامل حواسه، ما بكون وصل لحتة يفهم يسأل عن شنو ذاتو.

المشكلة دي بتكبر في الأمثلة المعقدة، لأنو غالبًا بكون في مجهود مشترك مفروض يتعمل. الأم بتكون عارفة إنو الصحن دا قاعد في مكان ما في المطبخ، وتحديد المكان بالضبط بحتاج الزول يمشي هناك ويتخذ إجراءات معينة. غالبًا الإجراءات دي حتاخد منها مجهود كبير جدًا، وعندها مهام تانية مهمة للأسرة ككل، ما في زول غيرها بيقدر يعملها، فالمفترض الشافع يمشي ويعمل الجزء الأخير.

هنا الشافع ممكن، بدافع الكسل، يقعد يطيل الحوار أو يحاول يقنع أمه (من القنع ما الإقناع) عشان يوصلها لمرحلة "لو جيت ولقيتها"، وبالتالي يقدر يواصل لعبته ويا دار ما دخلك شر. الأمر دا طبعًا حينتهي بالأم إنها تعمل أي شي براها، بجودة غالبًا أقل من التعاون، لأنو المجهود البتحتاجه لتزبيط الملاح ح تقعد تقضيه حوامة تجيب بيها الصحون.

لدرجة كبيرة نحن بندلع الشفع، ما بنخليهم يتعلموا بذل النوع دا من المجهود، اللهو حركة يلقى أي شي جاهز، وبنفتكر إنو دا لمصلحتهم، لكن البحصل إنهم بس ح يبقوا أقل اعتمادية على نفسهم، وحيفقدوا مهارات حياتية في جوانب ما ممكن تخطر على بالنا أصلًا.

نفس النمط البسيط دا ح ينتقل لمستويات أعقد، نفس الطفل المنتظر أمه تقنع وتقوم بالمهمة، ح يمشي ينتظر زول تاني يقوم ليهو بمهمة مؤثرة على حياته بصورة أكبر، وداك ما عنده نفس العطف والحنان، لأنو ما هو الجابه للحياة. فحيقول ليهو: "ح أقوم وألقاه، لكن انت امشي شوف ليك قبلة صلي عليها".

فأحيانًا، ربما يجب عليكم القسوة عليهم قليلًا حتى لا تقسو عليهم الحياة. أو سوف تندمون حيث لا ينفع الندم.

Wednesday, 4 June 2025

عن الهادي الجبل

الهادي الجبل هو مثال حي للشمعة التي تحترق كي تضيئ للآخرين. أعطاه الله قدرة عالية على استخراج الألحان العذبة من قبيل السهل الممتنع. خليط عجيب من التفرد (ألحان أصيلة غير غير متكررة في الأغنية السودانية) - سهلة الترديد بما يمكن المغنيين والعازفين بمختلف مستوياهم ترديدها والتطريب كل حسب ما يمتلك - لكن في نفس الوقت بمساحات واضحة لاضفاء اللمسات الخارقة لمن يستطيع التحليق عاليا كما كان يفعل الراحل الحوت.
والهادي الجبل هو أستاذ متجرد بكل ما تحمل الكلمة من معنى - فهو قد قرر بطوعه واختياره أن ترتبط أجمل ألحانه باسم آخر له قدرة أعلى على تطريب الوجدان السوداني وهي واحدة من خصال الموسيقيين الحقيقيين- فالمهم في النهاية أن يصل العمل لا من يوصله وهي خصلة حبى الله بها محمود أيضا بطبيعة الحال. طوبي للشيخ والحوار الغلبه.
عندما أقول بطوعه فأنا اقصد أن رجلا بقدرات الهادي لابد أنه قد عرف في أول لحظة التقى فيها بمحمود بأن هذا الفتى ما هي إلا مسألة وقت حتى يتربع على عرش الغناء السوداني -وأن أي اغنية يرددها غالبا سيمتلكها عنوة واقتدارا شاء الناس أم أبوا - فذائقة الجمهور لا تستطيع الاعتراف بهذه المقايسس الدنيوية عندما يكون موضوع الخلاف بحجم صوت الحوت.
طبعا هناك من حاول مقاومة هذه الموجة ومات معها بالطبع كما حدث مع صاحب الفات زمان عندما حاول شاعرها حرمان المجتمع السوداني بدعوى ما يسمى بحقوق الملكية الفكرية (أنا لست ضد الفكرة بصورة عمياء بالمناسبة).
لابد أن الهادي كان من أكثر المكلومين بموت الراحل فحسب ما أعلم - فقد الابن هو ألم لا يضاهيه ألم على الإطلاق. فأنت تنجب أبنائك ليحملوا اسمك بعدك لا العكس. والحوت هو ابن حقيقي لأستاذنا تبناه ورعى مواهبه غير الاعتيادية - وهو أمر لم ينبري له غيره ممكن كانت لهم قدرات ربما أعلى من الهادي في التأليف والتوزيع كمحمد وردي - أكثر فنانيا غزارة في الإنتاج على الإطلاق. طبعا لحسن الحظ أمثال الحوت لا يموتون حتى تموت الأمة السودانية أو كل من أطربه هذا الصوت المحب المخلص بالرغم عن عدم اهتمامهم بجودة الانتاج الموسيقي كما كان يفعل الموسيقار محمد الأمين عليه الرحمة.
طبعا لسخرية القدر الهادي لم يجد نفس الدعم من الجيل الذي سبقهم. فالهادي على ذمة الراحل مصطفى سيد أحمد في فيديو يحكي فيه عن مسيرة جيلهم الفنية (مصطفى - وردي - محمد الأمين والهادي الجبل)(١) قد ذهب إلى ليبيا وهجر الساحة الفنية السودانية بسبب أن الجيل الذي كانت عليه مسؤولية تعليمهم وتمليكهم معالم الطريق كان ينظر نحوهم زي نظرة “تجار الخدار” للقادم الجديد- ما تجي تشيل من كومي. واحدة من أكثر الأفكار ضررا: أن نجاحك يخصم من نجاحي وهو مما يحرمنا من فرص العمل الجماعي كثيرا. كان جيل مصطفى والهادي يطلق عليهم “جيل بلا أساتذة” بسبب هذه القطيعة التي لا يبدو أنها انتهت بعد من المجتمع الفني السوداني من ملاحظاتي البعيدة.
جانب آخر أحبه جدا عن الهادي وهو أنه لحد ما أوجد مزيجا جميلا بين الأغاني المفرحة المبهجة الصاخبة التي لا يبدو أنها تناسب الذوق السوداني الحزين في المجمل - والأغاني السوداء البطيئة التي تدخلك في عالم من الكآبة كما يفعل مصطفى. المزيج يميل نحو المفرح لكنه فرح وقور يشبه وجه الكهل المليئ بالتجاعيد عندما يبتسم ابتسامة لطيفة واثقة كأنما هو زاهد في الدنيا لكنه سعيد بما أخده منها في نفس الوقت. هدا الثيم العام يبدو واضحا في أغنية بفرح بيها على سبيل المثال. هي أغنية تمثل الانسان الواثق بنفسه الدي يحب كما يجب أن يكون الحب - لكنه لا يسمح له بالتغول على شخصه. بفرح بيها وبحبها وبشوف فيها كل ما يمكن أن يراه المحب في محبوبه ولكنه لا يحتاجها ولا تتحول حياته جحيما عند غيابها كما يصور لنا بعض النرجسيين معنى الحب: الحب عندهم هو أن تكون سجينا في قصر المحبوب الذي بامكانه اللعب بحدوده كيفما يبدو له. تارة يدخلك في جنته وتارة يحرمك منها - تارة يكويك بناره وتارة يجيرك منها. الهادي بقول لينا لا: بس بفرح بيها. الجمال الشايفه فيها في حدود دنيتنا مافي. والجمال هو لقطة تحفظ في ذاكرة المشاعر فلا تزول للأبد. نعم تقل حرارة الإحساس الأول وهو أمر لا مرد له فيما يبدو - فهذه طبيعة الأشياء - يجب أن تتفرغ مواعينك لأحاسيس أخرى تضاهيها قوة ولكن - والحمد لله على نعمة الذاكرة - أن من ذاق حلاوة الحب مرة أصبح قادرا عليه للأبد فمغنينا سيظل قادرا على تحسس هذا الجمال القادم من خارج حدود دنيتنا الضيقة ما دام له قلب ينبض وذاكرة منتعشة وأوتار صوتية قادرة على التحرك بحرية في فضاء المعاني. حتى شخصية الهادي وصوته ذو الاشارات الزائدة على الجوانب والتي تصعب على من لم يمنح أغانيه وقتها أحيانا الاستماع اليه يبدو أنها لحد ما تشبه هذه الفكرة. ليس كل الناس لديهم القدرة على تجاوز هذه المعضلة البسيطة والنفاذ مباشرة إلى الاستماع المباشر لهذه الدرر الموسيقية بصوت من قام بجلبها من العدم. نشكر الحوت لقدراته في شرحها لنا بحدود معرفتنا الضيقة بلا أن ينقص من روح الأغنية شيئا. هذه مقدرة تفوق الخيال. حقيقة محمود هو هدية الله للسودان التي لم يرعاها كم يجب. الحوت هو المهندس الذي يأخذ النظريات من بحور الفلسفة ثم يقوم بتنزليها على حياة الناس مشاريع خضراء تنمو وتزدهر فتحيا الأفكار للأبد.
أتمنى أن تمنحني الحياة فرصة أخرى لحضور حفل آخر للأستاذ الجبل أطال الله في عمره. تغمرني سعادة هائلة أن شهدت له حفلا واحدا كان في مسرح مدينة النهود ومعه الأستاذ عبد القادر سالم والفرقة الاثيوبية وفنان آخر لا اذكر اسمه. لم تكن لدي نفس القدرات في تمييز الألحان ولكنني تفاجأت حينها بالفرق الكبير بين سماع أشرطة الهادي وسماع الهادي لايف على خشبة المسرح. هذا الرجل من عباقرتنا الذين لم يحظوا بالاهتمام الذي يستحقونه في نظري ولا أظنه يحفل بذلك فأمثاله يجدون في دواخل هذه العوالم التي يتحفوننا بها ما يكفيهم أبد الدهر - فقط لو توقفت الحياة عن قسوتها الخانقة ووجد كل منا يعينه على ضرورياتها.

Tuesday, 13 May 2025

رسالة إلى من يهمه الأمر

 كنت أظن، وما زلت أن لدي قدرة أعلى من المتوسط في الإحساس بآلام الآخرين وتفهمها بصورة عميقة، ولكن ما غاب عني هو أن هذا التفهم هو درجة أقل، وربما بكثير مما لو كانت آلامي أنا أو آلام أحبابي المقربين، ربما تخيلت أنني إستثناءً من هذا المقياس الذي يجعلك تئن عندما تجرح يدك، ويئن قلبك عندما تجرح يد عشيقتك. يبدو لي الآن أن الأمر أشبه بمسطرة تتفاوت طولا وقصرا باختلاف رهافة الحس للشخص المعين، لكن التفاوت عبر نفس المسطرة هو هو للجميع. قد تتعذب بآلام الآخرين كثيرا ولكن قطعا ستتعذب بآلامك أكثر. يتقطع قلبي وأنا ارى أسرتي تترك كل ما بنته طوبة طوبة - تاريخ رأيته بأم عيني وحضرت الكثير من تفاصيله وإن كانت بصورة متقطعة أحيانا، مع المعرفة بتفاصيل تجعلك قادرا على اكمال القصة حتى لو لم تعشها معهم يوما بيوم، يتقطع قلبي وأنا أرى كل ذلك ينهار في لحظة زمن بلا حتى مساحة للتفكر.

أنا شخص لمن لم يعرفني تربيت وسط العائلة الكبيرة مع حبوبتي، دوما كنت استمد الحب والحنان من المجموع، أهلي وجيراني (وهم أيضا أهلي) مزارعين ورعاة ومعلمين وعمال بسطاء بمقايسس أهل الدنيا كما يقول شيخنا الطيب صالح، لكن قلوبهم بها طيبة لو قسمت على أهل الأرض لكفتهم. من أجمل لحظات حياتي على الإطلاق هي المناسبات واللمات وحتى الوفيات يا للعجب. لا يهم فيما نتحدث أو ان كنا نناقش السياسة أو حلف الناتو أم نتيجة المدرسة، المهم هو ذلك الاحساس العالي بالصدق والحب. كلام القلب يستقبله القلب وكلام اللسان يتبدد في الهواء قبل الوصول لأذنيك. أناس حقيقيون يعبرون عن دواخلهم كما هي ولا يحملون في نفوسهم سوى الحب.
شاءت الأقدار على ألا احضر وفاة أبي، والذي اعتبره الآن حيا في داخلي ما دمت امشي على وجه البسيطة، ولكن رغما عن تأخري لاكثر من اسبوع كان الناس يأتون زرافات ووحدانا فقط لكي يخففوا عني آلامي، فقط النور ود أحمد خليفة، لا يفرق معهم أين يعمل ولا ماذا يفعل ولا مكانته الاجتماعية ولا وضعه المالي ولا هذه الأمور الدنيوية الفارغة، فقط النور ابننا الذي مهما علت مراتبه أو نزلت هو النور. واريد من هذا المنبر أن أطمئنكم أن النور في دواخله هو النور. كما قال حميد لا العمارات السوامق لا الأسامي الاجنبية تمحى من عيني ملامحك. أحببت بعض الأشياء فبدأت بتعلمها ومنها ما يسمى بهندسة البرمجيات التي صدف أن أبناء العم سام يقدرون من يعرف بعض دروبها - فاغتربت عندهم ووجدت عندهم حفاوة الاستقبال وتقدير العمل الجاد بعيدا عن العلاقات الشخصية على الأقل للحد المقبول بالنسبة لي. ولكن ما زال جزءا كبيرا من روحي هناك حيث ولدت وترعرعت. أنا اتخيل انا الروح تكبر وتتضخم لتشمل المكان الجديد مش بتتقسم حقيقة، لدي ثلة من الأصدقاء الأوفياء أخذوا الجزء الجديد من روحي - الأصدقاء القادرين على النظر إليك ما وراء هذه الأقنعة الزائفة، أصدقاء لا استبدلهم بذهب الأرض ويمكنني تخيل حمايتهم بالغالي والنفيس كما يفعلون وكما رأيت كثيرا واقعا لا كلاما تأخذه الريح، بعضهم يسكن على بعد دقائق قليلة مني وبعضهم يبعد عني آلاف الأميال لكن لم تبدلنا المسافات ولم يغيرنا الزمن. أنا انسان بسيط لا ارغب في أي نوع من التواصل الزائف ولا أريد سوى التحدث لأرواح من أحب. لدينا زمن محدود في هذه الدنيا فلنعيشه كما أراد الله لنا أن نفعل. سبحان الله الواحد يغترب في أبعد بقاع الأرض عشان يكتشف انو الحياة هي ابسط بكثير مما نتصور وأعقد بكثير مما كنا نعتقد أيضا - يا للمفارقة يا للمفارقة.
حباني الله بذاكرة قوية في الحوارات، قد أكون غبيا لحظيا ولا افهم مغزي الكثير من الإشارات والأفعال، ولكنها تحفظ في مكان ما بعيدا لا يبدو حتى أن لي تحكما فيه، تتكاثر الأمثلة حتى تأتي لحظة جر الشريط وفجأة استعيد كل هذه الأحداث وكأنما أشاهد فلما متسق الرواية. هذا الأمر أحيانا مخيف ومرعب، أشبه بقدرتك على رؤية الناس عاريين من كل القناعات، فقط ترى فيهم هذه النسخة البشرية الحيوانية البسيطة بلا تعقيدات كثيرة، أصبح بامكاني رؤية الشاب المراهق الذي يعاكس كل من تحمل لقب أنثى في الشارع في داخل البروف الشيخ الوقور، يمكنني رؤية الطفل الأناني المزعج في وجه المليونير الذي يتحدث للملايين ويحاول جذب انتباهم كما تحاول بنت أخي تعلية صوتها بالبكاء عندما يتجاهل الجميع سماع كلماتها غير المفهومة لغة والمتسقة فكرة وشعورا، يمكنني رؤية العنصري البغيض الذي يغلف كلماته العنصرية المباشرة بما يسمى بالطعمية أو السخرية فهو ان كان واعيا بكلمات لسانه لا يمتلك نفس القدرات في إيماءات وجهه ونظرات عيونه. يمكنك رؤية كيف أن هذا الشاب وتلك الفتاة يتغازلون وسط الجموع رغما عن جلوسهم في أماكن منفصلة تماما - بل وحتى أحيانا يمكنك رؤية هذه الشخصيات حتى في نفسك التي بين جنبيك.
هو أمر مرعب ومخيف ولكنه جميل أيضا لأنك بالمقابل تستطيع رؤية الجانب الآخر، تستطيع قراءة الحب والاهتمام في كلمات بسيطة مرسلة من شخص لديه كل الأعذار ليكون غاضبا عليك، تستطيع رؤية الاهتمام في صديق يدعوك للمبيت عنده كشخص استثمر الكثير من وقته ليتفهم احساسك الانساني الحقيقي وقتها بعيدا عن الأحكام السريعة الجائرة، في صديق يقضي وقته لإعداد وليمة تحبها ويدعوك لها بكل ترحاب تعيد لك عبق ذاك الجو الأسري الجميل الذي لا ندري ان كان بوسعنا اعادته مرة أخرى، صديق يتصل بصوت لا يبدو عليه أي نوع من المشاعر ولكن تراها عيانا بيانا في كل ما يفعل. الحمد لله على نعمة التبصر ولو رجع بي الزمن لما اخترت غير ما اخترت. كما يقول ايليا عن الليل الذي يستر الأزهار الجميلة ولكنه يظهر الجمال الكامن:
ان كان قد ستر البلاد سهولها ووعورها - لم يسلب الزهر الأريج ولا المياه خريرها. نعم فقدنا المأوى والمباني ولكننا بنينا ما هو أعظم منها في دواخلنا وسنعيدها يوما ما وبصورة أجمل آلاف المرات.
أنا انسان مفعم بالحب والحياة، اقدم النصيحة لكل من يقبلها ولا ارجو لها ردا مباشرا كما فعل الكثيرون معي أيضا وساعدوني في الوصول إلى ما أنا عليه حاليا، تعلمت الكثير ممن حولي، واحاول ما امكن نقل خبراتي المتواضعة خصوصا لمن هم أصغر مني. أحيانا اقسو عليهم ولكني اراجع نفسي واتعلم واحاول أن أكون معلما أفضل في المرة القادمة. وهذه هي قيمة الانسان في نظري أن يسدد ويقارب. من الأحاسيس جدا والتي تنزل علي بردا وسلاما عندما تأتيني النصيحة بحب من اخواني الصغار، أنا أقدر الحب والمنطق والمعرفة إلى حد بعيد. لا أتقبل أي نصيحة لمجرد أن من يقدمها هو أكبر مني سنا - ولا ارفض ايضا لنفس السبب. نعم أقدر جهلي واحاول ان اتعرف على معرفة الاخرين الغائبة عني. - لكن ما دامت النصيحة شخصية وأنا من سيأخذ بها يجب أن أكون مسؤولا عن القرار الذي اتخذه ولا ارده الى أن فلانا قال لي كذا بعد ذلك.
عندما يقدم شخص ما نصيحته بمقدمة كهذه “أنا اخوك اكبر منك” اعتبرها تعبيرا عن الحب والمحنة ومكانتي في قلبه في اغلب الأحيان لا أكثر- أما النصيحة كمحتوى فتقدر بقدرها ومنطقها - هذا ليس خيارا بالمناسبة - مخي يعمل هكذا وهو شيء لا استطيع رده لأنني لا أرى طريقا آخر في عالم مليئ بالنوايا المختلطة. أتنازل أحيانا إحتراما للأعراف والتقاليد وما إلى ذلك إما تقديرا أو خوفا مما يترتب عليها ولكن داخليا لا أقدر على غير ذلك. أنا اعتقد ان هذا السلوك يحمي مجتمعاتنا مما اسميها بالفيروسات المتخصصة. تخيل أن شخصا كان طبيبا ماهرا وصل أعلى الدرجات في العلوم الطبية نظرية وممارسة وأخذ كل الألقاب الممكنة - ثم قرر فجأة أن يفتي الناس في الاقتصاد وعلوم الاجتماع وهو فيها أجهل من ابن اخي الصغير. فقط الفرق أنه يضع لقبه الطبي في نهاية منشوراته - أي ضرر يمكن أن يحدثه على مستوى المجتمع الذي تعلم أن يحترم ويقدر من يطبب جروحهم وآلامهم - وحق لهم أن يشكروا على ذلك - أي ضرر يمكن أن يحدثه علينا باقتراح نصائح مشروخة تحدث ضررا ربما يساوي أضعاف ما أحدثه من فوائد في مجاله بسبب أن الناس يسمعون كلامه الفارغ ثقة فيه واعتقادا منهم بأنه له نفس المستوى المعرفي فيما يقول. أنا طبعا لا ادعو الى وحدة التخصص باي حال من الأحوال ولكن فقط أتمنى - ولا اعرف ان كان هذا ممكنا - أن يصبح مجتمعنا يوما قادرا على تمييز المعارف لوحده بعيدا عن هذه الغطاءات - وسأعمل على ذلك ما استطعت.
يمكنكم اعتبار منشوري هذا اعتذارا لكن من قد مسسته بسوء وكان لي شيء من الحب في قلبه. شكرا لكم واحدا واحد وشكرا لهذه اللحظة العابرة التي ساعدتني في أن أرى نفسي في عيون من أحب. رغم المرارة أنا الآن مفعم بالطاقة والحيوية ولا أرى سبيلا غير محاولة التشبث بالأمل والتخفيف على بعضنا البعض ما أمكن. غير ذلك سنموت قبل أن تحل علينا آجالنا الجسدية ولا فائدة من جسد نزعت منه الروح. يموت الإنسان حينما تنزع روحه ولا يموت بالضرورة عندما تتوقف ماكينته الجسدية عن الدوران. هناك طفل ما كبر بداخلي بمئات الأعوام بسبب هذه الحادثة.
الله يديكم العافية ويدي أي زول قدر نيته.

Tuesday, 22 April 2025

عن مصطفى والآلام

مصطفى سيد أحمد يمثل قاع التألم السوداني بالنسبة لي وأصدق من عبر عنه. 

يتراوح الألم بمقادير مختلفة عبر الأغاني المختلفة 

منها الألم السوداني العادي الطبيعي المحتمل الذي يبدو أن الكل عاشه ممثلا بالحزن النبيل .. 

الكل عاشه هذه معلومة يمكن استنتاجها بمقدار من يستمتع بالاغنية بصورة واضح انها تمسه بصورة ما

وأيضا بكمية من كرر الأغنية من بعد مصطفى .. طبعا التكرار تحكمه عوامل كثيرة كالسهولة التقنية للأغنية ولكن أنا أرى أن  الحزن النبيل ليست من الأغاني السهلة على أي حال .. ومع ذلك اذا بحثت في اليوتيوب فتجد منها العديد من النسخ وأن الكثير من فناني الصف الأول قاموا بتجربتها

المرحلة الثانية من الألم تتلخص في سافر

وهنا لم اجد غير لينا قاسم هي من قامت بمحاولتها وحتى لينا لا يبدو أنها عاشت ألما يقترب مما عاناه مصطفانا

فقد أدت الأغنية بلا أخطاء وبطريقة ناعمة وسلسة وجميلة ولكن لم تستطع صب ذلك الجم الضخم من المشاعر يوازي ما قام به صاحبها وهي مقارنة ظالمة على أي حال - ولكنه وصف لا ينتقص من لينا شيئا فهي قدمت الأغنية لجمهور جديد ربما ليس له القدرة على الإستماع للمصدر مباشرة 

اذا قمنا بتعريف مقياس للمشاعر وافترضنا انه دائما يمثل جزئا من الأصل (مع استثناءات بسيطة يتعدى فيها الفنان صاحبها الأصلي وهذه لم أراها إلا في محمود وفي أغاني محدودة جدا) فأنا أرى أن الحزن النبيل مثلا حظيت بتغطية مشاعرية جيدة تحديدا من الصوت الطروب نادر خضر عليه الرحمة ولكنها نسخة شبيهة بالأصل لدرجة بعيدة بدون اضافات أو أبعاد جديدة سوى خامة صوت نادر لمن يعشقها

المثال المختلف هو مازن حامد وهو في رأيي فعل بالحزن النبيل ما فعلته لينا بسافر حيث قلل مقدار المشاعر إلى حد بعيد مع الحفاظ على الكمال فيما حاوله. بمعنى أن ما فعله مازن هو يطابق ما أراده مازن ولكن ما أراده مازن هو نصف ما فعله مصطفى وهو أمر يشبه الشخصيات الكمالية عموما- الشخصيات التي لا تحاول ما هو أكبر منها  أمام الجمهور فيكون انتاجها دوما كاملا ومقدسا هو أمر يبدو أنه يتوافق مع الذوق السوداني إلى حد بعيد فنحن لدينا آذان مدربة على سماع أغاني جميلة ومعقدة لكنها محدودة

لكن مازن قام ببعد ثاني مختلف وهو ادخال الجيتار الاكوستك بطريقة غير اعتيادية .. الكثير من السودانيين يعتقد أن الجيتار- أعقد آلة وترية في عصرنا هذا - صنعت للإيقاع ولا يمكن استعمالها إلا كدلوكة ولكن أمثال مازن هم من يصنعون تغييرا في هذه الإتجاه وأي جيتارست سوداني لابد أنه سيدين بالفضل لمازن. ربما لهذا  لم يحاول الذهاب بعيدا بالاغنية بطريقة قد تجعلها أكثر نخبوية لسببين: زيادة كم المعلومات و زيادة معدل الأخطاء - ليس لدينا الوقت والراحة النفسية لمعالجة الكثير من المعلومات كما يفعل مصطفى وليست كل الآذان قادرة على استبعاد الاخطاء ومواصلة الاستمتاع.

هذا الأمر خلق ذائقة فنية غريبة - تجعل تعريف الأغاني ضيق إلى حد بعيد. نحتاج المزيد من الفنانين كسيد خليفة ومحمد الأمين الذين يقومون بالمخاطرة والترديد واللعب بالمقاطع بصور مختلفة تجعل الذوق الموسيقي قادرا على الانتاج اكثر من الاستمتاع بالأشياء الكاملة المزبوطة

لفهم الفكرة يمكنك البحث عن تسجيلات زاد الشجون أو بتتعلم من الأيام لترى التشكيلات المختلفة التي يفعلها محمد الأمين بأدواته الثلاثة: الفرقة الموسيقية - العود وصوته الطروب وهو أمر نجح فيها الأستاذ لحد بعيد حيث استطاع الجمع من الكمال الذي تحتاجه الأذن السودانية مع فتح براحات للتجريب فيما سماها هو الاغاني الكبيرة وهي تسمية لطيفة جدا لأن كل الأغاني كبيرة ولكن ما يقصده محمد الأمين هي الأغاني ذات الألحان المبسطة والبطيئة القابلة للتشكيل بصورة تجعل من لم تتعود أذنه على التشكيلات الموسيقية المختلفة يستطيع فهمها بسهولة والانغماس في الجو.

لكن أغلب أغاني محمد الأمين قابلة للتشكيل لكنه يحتاج موسيقيين قادرين تقنيا بصورة لا يبدو أنها متوفرة أصلا في محيطنا ولا تراها إلا في نجوم الروك الكبار - مثلا أغنية كهمس الشوق من السهولة بمكان أن تتخيل تشكيلات مختلفة لكن من يجرؤ على تطبيقها بهذه السرعة العالية؟ حتى الجزء الأخير في سولو الجيتار نجد أن الأستاذ يلقنه تلقينا لصاحب الجيتار. وهذا ليس انتقاصا منه بالمناسبة بقدر ما هو وصف لما هو متوفر في السوق الموسيقي - فصاحب الجيتار هو من أفضل عازفي الجيتار السودانيين برأيي ولكنه بطبيعة الحال لا يملك من البراح التأليفي والتشكيلي الذي يملكه الأستاذ - والذي يبدو بسبب بعد المسافة بينه وبين أقرانه لا يحتمل اعطائهم المساحة لينموا هذه المواهب. الأمر يشبه في السياسة الصادق وحزب الأمة - فالصادق بالرغم من ديمقراطيته لكن لا أحد في محيطه استطاع الاقتراب من امكاناته بصورة تجعله منافسا حقيقيا لزعامة الحزب - ولا قام الصادق بالتنازل عن المنصب طواعية ليأتي شخص ما ويقوم بالتعلم على روؤس الناس فمات الصادق ومات الحزب.

الاستثناء في حالة الأستاذ هو عازف الكمان لؤي عبد العزيز والذي يبدو أنه أكثر من شرب من منبع الموسيقى الكبير على يد شيخه - ولكنه أيضا لا يتحرك بنفس الحرية. عندما يعزف السولو ترى بوضوح أنه يعزف اللحن بشخصية الكمان كما يجب أن تكون وأنه يتحرك في المساحات الصغيرة بصورة جيدة ولكنه لا يجرؤ على طرق الأبواب الكبرى. لا أدري هل هو موضوع خوف أم قدرات ولكني أراه الآن لديه الفرصة للانطلاق أو على الأقل لايصال الرسالة للجيل الجديد حتى نرى ٥٠ نسخة من همس الشوق كلها مختلفة عن بعضها البعض حتى يجد كل منا ضالته أو يصنعها بنفسه.

المهم نرجع لموضوعنا

الأغنية الأخيرة التي أراها تمثل قمة الألم ويبدو أنه لا أحد يقوى على إحتمالها هي اسئلة ليست للاجابة

لا استطيع وصفها مهما حاولت ... على قول المثل المصري ضرب ضرب ما فيش شتيمة

حتى اللزمات الفنية الضرورية لكسر الطعم (لا أحد يقوى على ألم مستمر بلا معنى بطبيعة الحال - هذا نوع ساهل من الملل يستطيع أي فنان فعله) تجدها قصيرة جدا فقط بما يكفيه لالتقاط انفاسه لمواصلة صب آلامه العميقة

بحثت كثيرا عن شخص حاول الاغنية بطريقة أخرى فلم أجد غير الشاب اليافع امجد ابوقصيصة والذي يبدو أنه له مستقبلا فنيا باهرا كفنان جاد يقدر صنعته قدرها